أدبي

شجرة القيقب

ابنة الطباخة

وقت النشر : 2022/11/01 05:41:15 AM

شجرة القيقب

للكاتبة: سكينة الشرقاوي

ربما يراها البعض مجرد ترهات أو تخريف. عجوز على مشارف الموت بيد أني لست عجوزا. لكن موت والدتي ليلة أمس حرر سيلًا من الذكريات، لكنها من الأحداث الراسخة والتي تركت في نفسي أثرًا خالدًا.

أذكر أنني ووالدتي كنا نمضي الخريف في مزرعة بإحدى القرى المنعزلة نوعا ما عن المدينة. تلك القرية التي تحمل طابع أرياف مرسيليا. قد لا أتمكن من إيصال الصورة كما هي محفورة بذهني. بمنتصف القرية كانت هناك شجرة قيقب شامخة وغالبا ما كنا نصل أوان تساقط أوراقها.

دائما نفس المشهد. شجرة القيقب الشامخة حولها بقعة خضراء من بعض الأعشاب الصغيرة وسيارة عتيقة أظنها مركونة من قبل مولدي حتى. ظهرت عليها بقع من الطحالب الخضراء.

أذكر أني مرة سئمت من التفكير فسألت عنها أمي التي كانت تجلس خلف المقود متأنقة كعادتها بطريقتها الكلاسيكية والتي غالبا ما كنت أرى جموع السيدات يرمقنها بامتعاض من لباسها رغم كونه محتشما. نظارتها من ماركة كارتي المستديرة والتي تتناسق بشكل غريب مع لون أحمر الشفاه القاني المفضل لديها وتنورتها الفضفاضة وقميصها الأزرق الفاتح وحذائها الجلدي وقفازاتها الدانتيل المخملية. ثم طريقة ربط شالها المثلث القصير والذي يلتف حول رقبتها محددًا إياها مع بعض خصلات شعرها الأسود التي تطل منحدرة على جبهتها، وابتسامتها التي كانت تهديني إياها. أمي كانت -ولازالت- أكثر سيدة متأنقة عرفتها. أظنني أسهبت في وصف أناقة أمي لشدة تأثري بها، آن سؤالي لها قالت لي أنها لا تعرف فمنذ قدومها لأول مرة كانت مركونة هناك.

ابنة الطباخة

لم يكن من المسموح لي الاختلاط بالأطفال أو الخروج دون أمي من المزرعة. فبالتالي كان ينبغي على الفضول أن ينهش تفكيري حينها. كل العاملين لا يردون على سؤالي مؤكد، وحتى ابنة الطباخة لم تكن بالطبع لتكلم تلك الصغيرة المتعجرفة قليلة الكلام. ربما طبعي الغريب كان سببًا في انعزالي. في عيد ميلادي السادس طلبت من والدتي حفلًا قرب شجرة القيقب. رغم ترددها، لبت رغبتي وأقمنا الحفل قرب الشجرة. كانت السيارة بحالة جيدة رغم كونها من ماركة عتيقة منذ سبعينيات القرن الماضي إذ حرصت أمي على تزيين المكان. كنت مسهبة أرمق تلك المرسيدس بعيون متسعة إلى أن أيقظني عبث أمي بشعري تحثني على العودة إلى البيت قبل الغروب.

في طريق عودتنا التي ولأول مرة أعبرها على قدمي رأيت بضع محلات تجارية صغيرة والمنجم وأخيرًا المزرعة. كان هناك رجل عجوز عند بوابة المنجم قام بمناداة والدتي فابتسمت وذهبت إليه، أعطته بضع وريقات نقدية وقبلت رأسه، خلت لوهلة أن والدتي تخلت عن تكبرها مع الغرباء رأيتها تلتفت نحوي مشيرة إلي أن أذهب اليها. هرولت إليها فقالت لي أن ذلك الرجل يعرف قصة السيارة ويملك مفاتيحها، قال لي أن السيارة كانت ملكًا لجنرال متقاعد من الجيش الفرنسي كان قاطنًا بالمزرعة قبل أن تقوم أمي بشرائها وإعادة تجديدها. كان قد تعرض للطعن من طرف أحدهم فقام العجوز بمحاولة إنقاذه وأخذه إلى المستشفى بمركز القرية، لكنه مات بمجرد ركن السيارة هناك تم سجن العجوز ظلما وخرج من السجن منذ بضعة أيام.

كانت هناك دموع متحجرة بعيون العجوز. مشاهد الوحدة والألم كانت كلها تمر. تلك الليلة رأيت كوابيس كثيرة عن حياة العجوز وعن موت شخص بقربه. صباح اليوم التالي أيقظتني أمي قائلة أن هناك خطب بالقرية. عند ذهابنا هناك كان رجال الدرك يطوقون المكان وبضع سيدات فضوليات تحلقن حول شجرة القيقب. جريمة قتل أم انتحار؟

كانت الجثة ملقاة على السيارة فاردة ذراعيها وبيدها اليمنى خنجر عتيق مما رجح فكرة الانتحار، كانت مع الجثة اسطوانة جرامافون كتلك الموجودة لدى أمي.

وقفت أمي ترمق الجثة بنظرات باردة تم التحقيق معها وعن صلتها بالمقتول ثم بعد بضعة أيام أغلقت القضية على أنها انتحار. يومها رأيت الضابط الذي أقبل إلى المزرعة حيته والدتي بتكلف وهي تنظر له، بغرورها المعهود وأنفها الذي لا ينكسر تطالعه بعلو، وعيناها تفرضان عليه الخشوع في حضرتهما كما كان يحدث مع الجميع. عيناها التي تثير في المرء شعورًا بالرهبة والانجذاب والخنوع. بعد بضع كلمات من الطرفين غادر الضابط.

الشرفة

كنت أسمع همهمات نساء من نافذتي حول أمي يعتقدون أنها تعرف القاتل إلى أن جاءت بعد أسبوع من الحادث امرأة في منتصف العقد الرابع تقريبًا تحمل رضيعًا على ظهرها وتقود فتاتين بنفس عمري. اتخذت مجلسًا بباب المزرعة الرئيسي وهي تنعت أمي بأنها فاجرة وأنها يتمت صغارها. ظلت أمي تطالع المشهد من الشرفة التي اعتدنا شرب الشاي الأخضر فيها بنفس برودها المعتاد وبنظرات مطولة كأنها تقرأ كنه الوضع. فجأة ابتسمت ابتسامة دافئة وهي ترى العجوز الذي تذكرته بسهولة قادمًا يحمل جريدة مطوية تحت إبطه وبيده عكازه قادمًا لتتجه مباشرة نحو باب المنزل. قمت بمراقبة نزولها الدرج برزانتها المعهودة.

تقدمت بخطوات سريعة لتفتح الباب مستقبلة الرجل العجوز والذي كان اسمه العم سليمان. أشارت له مرحبة ونادت على الخادمة آمرة إياها ببسمتها المعتادة أن تحضر الضيافة ولعبة الشطرنج.

جلست بقربهم أراقب نقلات الأحجار بشغف. كانت المرة الثانية التي يزور فيها العجوز سليمان منزلنا بعد أن رافقنا مساء يوم ذكرى ميلادي حين روى لي قصته مع الجنرال. فوجئت بنظرات أمي تقسو وهي تسأله بنبرتها المتكبرة:

_ “لماذا قمت بقتل زوج ابنتك يا عم سليمان؟”

لم يرد وظل مسهمًا شاردًا يراقب الملك الذي حاصرته أحجار أمي وقد تهدلت أكتافه ليرفع عينيه الممتلئتين بالحقد. حقد يكفي البشرية جمعاء. لكنه سرعان ما بدا الذعر على وجهه وهو يرى الغضب في عيني السيدة الراقية التي تجلس مقابله. كنت أنا أراقب الحوار بحماس. خرجت حشرجة تبعها تنهيدة عميقة ليشرع العجوز في الحديث:

_”كانت مدام إيزابيلا زوجة ذلك الحقير الفرنسي حاملا في شهرها التاسع. ليلتها تسللت إلى غرفة نومهما بعد سماعي ضجة أثناء تجوالي حول المنزل. تسلقت عبر غصون شجرة التوت التي قطعت لا أدري أيا كان من عادة زوجها الشرب حد الثمالة ليأتي إليها ممارسًا عليها ساديته وينام كالقتيل. من جانبي كنت أحبها حبًا عظيما وقد كنت أقدم رشاوى للصيدلي ليمدني بأقراص مخدرة كنت أضعها في كأس الجنرال كل ليلة على مدار سبعة أشهر مذ علمت بحمل السيدة والتي بكت مترجية أن أنقذ جنينها من الموت. كانت واقفة في ركن الغرفة تنظر بأعين شاخصة ويدين ملطختين بالدماء ترمق السرير الذي كان زوجها يترنح فوقه والدماء تطفر من فمه وهو يسب ويلعن. قمت بحمله إلى سيارته واتجهت ناحية مشفى القرية. غير أن الصيدلي قام بالوشاية خوفًا على نفسه وأقر أنني اشتريت مخدرًا هو ذاته الذي كان بدم الضحية. وقد انتهز أقرباء الجنرال الفرصة للطعن في شرف السيدة إيزابيلا ومنع طفلها من أي ميراث. ماتت إيزابيلا وجنينها أثناء الوضع. كنت حينها أتعفن في السجن تاركًا ابنتي ذات الثلاثة عشر عاما. تزوجت عديمة الشرف أمها بعد شهر من الحكم عليّ بالسجن عشرين عاما وقد ماتت بعد ثلاث سنوات تاركة ابنتي العزيزة للاغتصاب على يد زوج أمها السكير.

قبل أسبوعين كنت قد خرجت من عندك وقد استبحت أخذ أسطوانة كانت موضوعة على الطاولة بعد أن جلست مع صغيرتك أروي لها قصة السيارة. عند وصولي كان باب بيتها المتهالك مفتوحًا على مصراعيه ورأيت ذلك السكير يحمل سكينًا بوجه ابنتي مطالبا بالمال الذي جنته من شغلها طوال اليوم بحقول الزيتون. بدون تفكير انطلقت مقيدًا إياه من الخلف ونظرًا لبنيته المتهالكة بفعل إدمانه أنواع رديئة من الكحوليات قمت بالقبض على يده الحاملة للسكين ودفعتها نحو صدره. وضعت الأسطوانة بغرض اتهامك في القضية وطبعًا سوف تفضلين دفع فدية على أن تُسجني وتتركيها”

وجه نظراته نحوي وانطلق يهرول وهو يحمل شوكة كانت موضوعة في طبق التحلية ليخز بها عنقي. كانت قبضته ممسكة بذراعي بقسوة ظهرت على وجهي.

قالت أمي بعملية:

_ “دعها كي تذهب بسلام أنا لن أُخبر أحدًا وسأعطيك ما يكفيك كي تعيش بمدينة أخرى”

طفرت دموع من عينيه وهو ينطق بأسى:

_ “ما أوده هو أن تعيش ابنتي وأطفالها حياة كريمة”

كانت قبضته قد ارتخت حول ذراعي لأترنح مبتعدة راكضة نحو أمي بهلع. أثناء محاولة العجوز الإمساك بي دخل الضابط وسدد طلقًا ناحية الثريا المعلقة بمنتصف البهو لتنزل على جسد العجوز. أغمضت أمي عينيّ وقد شعرت بلطخة لزجة على خدي كانت دماء العجوز الذي اخترقت قطع الكريستال جلده ممزقة إياه.

لم تبدي ابنة العجوز رد فعل سوى دموعًا سالت على خديها. بعدها قامت أمي بتخصيص مبلغ شهري لها مقابل الإشراف على العمال في المزرعة وحقول الزيتون.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى