أدبي

فتيل الحب

وقت النشر : 2023/02/13 07:34:27 PM

بقلم: علي عماد أحمد

 

كنتُ أسقيَ موضِعَ قدميها على الرمالِ وأقول: “من هُنا سينبُتُ العُشبْ، من هُنا ستُزهرُ ورود الياسمين”.

كنتُ أنظرُ حبّات العرق على جِيدِها وأخالُها شراب ملائكة السماء.

كنتُ أرى أثَرَ فَمِها على الأقّداحِ وأحسبُ أنَّ الله أرسلَ إلينا شيئًا من الفردوسٍ علّنا نتبّلغُ بِهْ.

ذات صلة

لَمْ تكنْ الحناءُ على يدِها جَليةً بِقدْرِ سواد كَحيلِ عينيها، ولَمْ يكنْ رحيق عطرِها أقلُ أثرًا من تِلكُم اليرقات التي تسكن بين خَصْلاتِ شعرِها الأحمر الكيرلي.

كلُّ نحتٍ في أصابِعِها يحكي أقصوصةً ما، وكلُّ تقطيبةٍ في ثغرِها تطغىَ على لون شِفاها المصبوغِ بلون الدَمِ القاني.
❤❤❤❤❤❤

“كي تتحدث عنها ينبغي أنْ تذكر أشجار الزيزفون، وطرقاتِ بيروت، وشوارع حيفا وبيتِ لحم.
ودِمَشقْ؛ لا تنسَ دِمَشقْ.. ومنازل حلب ذات الحجارة البيضاء، وأغصان الزيتون في إدلب” هكذا أخبروني.

لكّني لَمْ أكن أعرف عن موطِنِها بأكثرِ مِمّا أعرفُ عن موطني! كلاهما غريبان عنّي؛ كأنهما حضارةً وَلَّتْ واندثرتْ منذ قرنٍ ونيف.

لكنَّ الفارق بينهما أن غرابة الأول (موطنها ): تكمن في أسبابٍ جغرافيةٍ وسياسيةٍ خطيرة!
وغرابة الثاني( موطني ) : تتعلق بعدم الرغبة في المعرفة!
ولمْ أكن أدركُ عن لهجتِها الشيء الكثير؛ فلطالما طلبتُ من بعضهنَّ أن يعلمني كيف أتكلم مثلهن.. لكني كنتُ سيء التعلّمِ للحد الذي جعل الأمر صعبًا للغاية؛ فلم أظفر منهنَّ بغير بضعَ كلماتٍ على غرار: “هيك، عَمْ تِحكي، كُلْ إشي، عنجد …..”
❤❤❤❤❤❤

كانتْ تمتلكُ صوتًا دافئًا رقيقًا منقوشٌ على نبراته تاريخَ بلادها البعيد.

كأن كل كلمةٍ تنطّقها هي أنشودةٌ ما؛ يختبيءُ بين مقاطِعِها وجهُ شقراءٍ صغيرةٍ تمرحُ في أروقة شآم.
يتوارى بين تفاصيلِها كَفُّ خمسينيةٍ مَكسوٌ بالزبد تصنع فطائر التفاح لحفيدها.

تنبثقُ من بين نغماتها هاتهِ التقاسيمُ التي نُحِتَتْ أسفل خَدّيْ عجوزٍ ينثرُ حلوى النعناعِ على أطفال الحارة.

كانتْ تمتلكُ صوتًا دافئًا؛ أكثر دِفئًا من أحضان شوق المغتربين لذويهم بعد فراقٍ طال في مخيمات اللاجئين، من شمسٍ تكسو فِراءَ راعٍ على مرتفعات الجولان بعدما أزاحتْ عنه ثلوج أيلول.

كانتْ تمتلكُ صوتًا دافئًا؛ يبعث السلام في قلبِ من يتوقُ للأمان، ويُضفي على الأجواء سكينةً وهدوء.

كأنها تُجسّدُ به كل معاني “مودةً ورحمة” بين رفيقين، أو كأنه تراتيلُ عابدةٍ تُناجيَ محبوبها الأول يُبلّغُها دُورَ عَدْن.
❤❤❤❤❤❤

وطلّتُها؛ طلّتُها تُذكّرني ب “مضناكَ جفاهُ مرقده”، وخاطرةٍ تُداعبُ قلمي تبدأ ب “أجتازُ مدينة أحلامي”.

كأنها مسكينةٌ توميءُ بذراعيها متأثرةً بجراح فؤادها وتستجدي فيَّ العطف؛ فأقعُ أسيرًا لنظرتها وكلماتها الحالمة.

كأني حين أراها أفقدُني في نهرٍ عَلتْ صفحتِهِ ورود جوريةٍ وفريهان، واصطفتْ بعمقهِ مدينةٌ من قوالب السُكّرِ التي تذوب على كاحلي فأُمعِنُ في الغرق.

كأني أُزيحُ عن ثيابي حمائم الأقصى لأُفسحَ المجال للطّير الأبابيل! فلمْ نَعُدْ بحاجةٍ لأعواد إقحوانٍ بِقَدرِ حاجتنا لحجارةٍ من سِجّيل.
كأني أمتنع عن زيارة خيام الغجر فيما أكتبُ وأتوقف عن التغزُّلِ في فتاتِهم حِنطيةِ اللون، وأتقربُ على استحياء من قوافل أبيها وأعمامها يجدّونَ المسير صوب وطنٍ جديد.
❤❤❤❤❤❤

وبسمتِها؛ آهٍ من تلك الفتنة التي تُشعلُ فتيل الحب وتؤجج مشاعل الغرام وتُقامُ الحروب من أجلها.

لو تدري أيُّ عصفٍ تضرِبُ به قلب الفتى! لو تدرك أن بين طرفيْ فِيها الصغير عالمٌ من النور؛ كأنه جزيرةٌ إرجوانيةٌ يتوسطها كوخٌ أتَتْ على جدرانهِ همسات الخريف ورائحة بذور ثمار البرتقال.

لو تعرف أيُّ أرقٍ يُصيب ليل عاشقها يجعل من نومه دربًا من الأحلام!
آهٍ لو تدرك، وأنّى تدرك! تمنح لخاطري إيماءةً برأسها، ضحكةً صغيرة، قُبلةً واحدةً وإِنْ كانت في الهواء، وإِنْ كانت في الخيال.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى