لقد كان إبليس من صفوةِ الجن قبل تكَبُّرهِ، فقد كان دائم العبادة مع الملائكة، ولكن معادن الإنس والجن وحقيقتهم لا تظهر إلا في أوقات التضحيات.
فلما أمره ربُّهُ أن يقومَ بعملٍ يجاهد به نفسه، وجد أنَّ نفسه قد غلبته وأنَّ كبره قد ظهر عليه، وذلك عندما أمره ربه بالسجود لمن هو أقل منه في أصل تركيبه -حسب تقييم ابليس- ليختبر السمع والطاعة، فأبىٰ إبليس مستكبرًا بأصله وتركيبه.
إنَّ الكِبر والتكبر من الرذائل القبيحة التي تقابل التواضع،
فيجب عدم الغرور بالنسب والأصل فقد قال الله تعالى في سورة الحجرات – آية 13 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات : 13.
إنَّ الكبر يُعَد من مساوئ الأخلاق، ومذام الأوصاف التي يبعد بها الإنسان عن قرب الله عز وجل، ولا ينتهي به إلَّا إلى أسفل السافلين.
و لعلَّ إبليس يمثل أوضح مصداق لهذه الصفة الرذيلة وما يستتبعها من رذائلٍ أخرى، وكان من عواقب فعلته أن أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، فقد كشف عن خُبثِ سريرته التي كان حريص على إخفائها، ولو كان مطيعًا لله تعالى من صميمِ وجوده لما أقدم على عصيانه ومخالفة أمره.
لقد كان إبليس عالِمًا بوجودِ الله، وعالِمًا بوحدانيته وعظمته وقدرته وهيمنته على عباده، وأنَّهُ يشمل خلقه بلطائفِ رحمته أو يأخذهم بألوان العذاب، كل حسب ما تقدمه يداه.
لم يكتسب هذا العلم من أحد بل بالمشاهدة والمعاينة والمعايشة، والحضور في الأجواء الملائكية المعطرة بالتسبيحِ والتهليلِ والخضوع والخشوع لله الواحد الأحد، فلم يكن محتاجا إلىٰ من يرشده إلىٰ الحق سبحانه.
ومما يؤكد معرفته بالله على نحو لا يمكن إنكاره، الحوار الذي دار بينه وبين الله عز وجل حين أبى السجود: “قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ” سورة الأعراف 13 : 15.
وعلى الرغم من كل ذلك العلم وتلك المشاهدة جحد واستكبر وتمرد على الأمر الإلهي برفضه السجود لآدم، وهو في ساحة القدس حيث لا يعصي الله عز وجل أحد، بل لا يجرؤ أحدٌ من مخلوقاته مجرد التفكير في مخالفة ربه، وجادل ربه في أمرِ السجود في محاولةٍ لفرضِ عبادته من حيث يريد هو.
وبناء على ما سبق، على الإنسان ألَّا يفتخر ويغتر بما عنده من خير، فالإنسان لا شئ رغم علمه وشهادته وإتقان تخصصه وعلو منصبه وكثرة جاه وجاهته، لا شئ في هذا الكون الواسع الفسيح العريض، لا شئ أمام قدرة الله وعظمته، الإنسان ضعيف، ضعيف جدًا، ولا حول له ولا قوة.
فالانسان يعيش تحت رحمة الله وتدبيره وحكمته، فلا يتكبر على خلق الله بما أتاه الله، ولا يغتر بتدينه، ولا بعلمه ومنصبه وماله، فلا يقل أنا الدكتور فلان، أو العالم والداعية والخطيب والقاضي والمحامي والأستاذ والمهندس.
إنَّ الإنسانَ منذ وُجِدَ على وجه الأرض، وجرى عليه قلم التكليف في ابتلاء وامتحان واختبار وفتنة.
قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك : 2، وقد يظن كثير من الناس أن الابتلاء هو فقط بالمحن والشدائد والمصائب، وهذا غير صحيح، لأن البلاء كما يكون بالشر والشدائد والمصاعب والمحن فإنه كذلك يكون بالخيرات والنعم، قال تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) سورة الأنبياء : 35.
إنَّ الابتلاء بالخير أشد وطأة، فكثيرون يصمدون أمام الابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير. ومما لاشك فيه أن كل نعمة يعيشها الإنسان تنزل به فهي فضل من الله عز وجل محض وتكرم منه سبحانه وتعالى لا يستحقها هذا الإنسان، فإنَّهُ ليس له على الله عز وجل حق واجب، بل الأمر كما قال الله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}.