أدبيمقالات متنوعة

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة التاسعة عشر

وقت النشر : 2024/01/19 03:17:24 AM

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة التاسعة عشر

بقلم: الكاتب الروائي حسن العربي

هكذا قررت وهي جالسة تبكي وتسترجع ماضيها وحبها القديم عندما كانت في ريعان شبابها، ووقعت في غرامِ أحد زملائها أيام الجامعة وضرب الجميع بقصتهما الأمثال، حتى أن أحدًا لم يتوقع أبدًا أن تنتهي هذه العلاقة، وأنها ستدوم إلى آخر الزمان، وكانت هي أكثرهم اقتناعًا بذلك؛ فقد ملأ حبه قلبها وكيانها، وباتت لا تعرف من الحياة إلا ما يدور حوله، فترى فقط ما يرى وتحب فقط ما يحب، وأصبحت حياتها كلها مرهونة بحياته، حتى جاءها يومًا ليزف لها خبر تصور أنه سوف يسعدها وقال لها:

حبيبتي أزف إليك اليوم خبرًا سوف تطيرين به من الفرحة، فقد اقترب موعد زفافنا.

حقًا أخبرني حبيبي كيف ذلك؟

لقد جاءتني منحة إلى ألمانيا كنت أسعى إليها منذ تخرجت، والآن جاءت الموافقة عليها لمدة سنتين سوف أجمع فيهما ما نستطيع به أن نبني عشنا.

تريد أن تسافر وتتركني؟

لا لن أتركك؛ فأنت حبي الأول والأخير. 

وانطلق يذكر لها كل مزايا هذا السفر، وكيف أنه سيكون دفعة كبيرة له حتى حين عودته، وكم سيجلب عليه من المال والخبرة مما يؤهلهما لبدءِ حياة كريمة، وبعد حوارات طويلة اقتنعت آمال بما قاله وسافر وعاشت حلم انتظار الحبيب، وكانت الرسائل بينهما متداولة تحمل كل معاني الحب والغرام واستمر الحال ومضت سنوات، لكنه لم يعد بل أن رسائله توقفت تمامًا، ولم يعد يصلها منه شئ، أما هي فاستمرت فى الانتظار.

أثناء سنوات الانتظار توافد عليها الكثير من الخُطَّاب، وتقدم للزواج منها كثيرون، لكنها كانت ترفض بشدة، وكان الأمل يملأ كيانها، إلا أن هذا الأمل بدأ يتلاشى، وعندما بدأ والدها يضغط عليها كي تقبل أيًّا من المتقدمين قبل أن يفوتها القطار وتبقى وحيدة في انتظار أمل لن يعود، قررت أن تترك البيت وتذهب لتعيش وحيدة فى انتظار الحب الذي كان بين مرآتها ومقعدها وعملها!

استمرت حياتها في انتظارٍ وعمل، أحلام وأمل حتى عرفت من أصدقاء بينهما أنه تزوج هناك من سيدة ألمانية وأنجب منها ويعيش معها حياته الجديدة.

رغم قرار آمال الصارم برفضِ الزواج من كمال فى هذه المرحلة الحرجة من حياتهم جميعًا، إلا أن قلبها وعينيها وكل خلجاتها كانت تفشي سرها وسر حبها وشغفها الذي بدلًا من أن تنطفئ ناره ازدادت اشتعالًا، ولم يكن كمال أقل منها شغفًا وحبًّا، ورغم أنه تفهم جيدًا رغبتها واحترم قرارها، بل وكان يؤيدها تمامًا إلا أن رغبته فيها كانت فى ازدياد مستمر، مما زاد من حنين نظراته وهمساته أحيانًا، وكان كل منهما يقاوم هذا الحب الجارف قدر استطاعته وحبًّا فى ليلى وخوفًا من جرح مشاعرها إن هي أدركت ذلك.

مرت الأيام وليلى تعيش في صراعها الداخلي مع المرض ولا تريد أن تستسلم له أبدًا، ولكن صراعها هذا كان فى إطارٍ من الرضا والثبات الجميل، مما أضفى على وجهها نورًا على نور، يزداد يومًا بعد يوم كلما تقدم بها المرض، وكلما زادت أعراضه عليها، إلا أنها بدأت تقترب من آمال أكثر وأكثر، بل وتشعر بامتنان شديد لما تبذله من وقتها ومن جهدها معها ومع البنات وكمال، فهي موجودة أغلب الوقت فى وسط المعركة بجوارها.

استقامت الحياة على هذه الوتيرة لبضعة شهور، مع استمرار جرعات العلاج الكيميائي وبعده الأشعة السينية فى محاولات متوالية فى الحد من انتشار المرض عن طريق محاولة تدمير الجدار الخلوي للخلايا السرطانية بأية من تلك الوسائل، ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، وكان العد التنازلي لنهاية محتومة قد بدأ، وكان أول من يشعر بذلك هو ليلى. ورغم ثباتها واستعدادها النفسي إلا أن أمر الأطفال كان يؤرقها وينغص عليها حياتها.

كانت تعلم أن الوقت يمر، وأنه حتمًا ستأتي اللحظة التي لن تدرك فيها ما يدور حولها، وكان دعاؤها فى كل عشيةٍ وضحاها موجهًا إلى رب العالمين من أجل بناتها وحياتهن بعد انتقالها إلى الحياة الحقيقية؛ الحياة الآخرة؛ وفي أحد الأيام وبينما كانت فى ركنها الذي تعودت أن تصلي فيه وتتعبد وتبتهل فيه إلى الله، وبعد أن أدت فريضة الفجر بدأت تشعر بانشراح فى صدرها، مع مرور عابر طاف بخيالها، فقامت مستبشرة مبتسمة وشرح به الله نفسها.

انتظرت تتمعن في أفكارها وما ألهمها به الله، وبدأت تنظر إليه وتفكر فيه وتدرسه وكأنها قائد لأحد الجيوش الذي وجد أخيرًا مخرجًا له من معضلاته، ووجد الطريقة المثلى لخوض المعركة الأخيرة. لم تمض أيام كثيرة حتى فاجأت ليلى آمال قائلة:

أريد أن أتحدث إليك يا آمال.

نعم حبيبتي.

عندي رغبة شديدة فى الجلوس على النيل، على الكورنيش مثلما كنا نفعل في الماضي.

ولم لا حبيبتي هيا ننزل ونأخذ البنات ونذهب لتناول طعام الإفطار في أي مطعم على النيل فأغلبهم يقدم وجبة الإفطار الآن، أو الغذاء كما ترغبين. 

أخشى من دوار الرأس، فقد يداهمني فجأة، أعتقد أنه من الأمثل ألا نأخذ البنات معنا. 

فلنترك البنات مع كمال ونذهب وحدنا أنا وأنت.

أنا شخصيًا لا مانع عندي، على العكس حبيبتي، هيا بنا في اليوم الذي ترغبين فيه.

ما رأيك غدًا؟ 

نعم موافقة جدًّا

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى