أدبيمقالات متنوعة

ورقة نقدية بعنوان “النوستالجيا وحنين الذكريات”لمجموعة هير عباس العقرب

مجموعة هير عباس العقرب

وقت النشر : 2024/02/24 02:22:50 AM

ورقة نقدية بعنوان “النوستالجيا وحنين الذكريات”

في مجموعة هير عباس العقرب

للأديب: حسن العربي

بقلم: الكاتبة والناقدة أمينة الزغبي

يشير علم النفس إلى أن العودة إلى الماضي وتفاصيله الجميلة، يساهم في تجميل رؤية الواقع، أو على الأقل التكيف معه، لكن لو علِقنا بالماضي كليًا، فإن ذلك يعني أننا نُنكر الحاضر، وكأن الزمن توقف تمامًا، أو أصبح لدينا توقف عن النمو بسبب فرط الإشباع أو قلته، لذا فالنوستولجيا إذا حلت مكان الواقع، فهي تعني أن الإنسان لا يستطيع العيش فيه، وربما ينزوي عن مجتمعه وبيئته، وهذا يجعله يشعر بالوحدة والغربة حتى وإن كان مُحاطًا بالآخرين.. ونجد أن النوستولجيا تكثر عند كبار السن، لأنهم يرفضون الواقع الحالي بكل أحداثه، وتطوراته، لاختلافه عما تربوا عليه، وهو ما يدفعهم للحنين إليه، والتمسك به، ويظهر هذا من خلال أحاديثهم، أو تكرار قص حكاياتهم.

ويكاد الفعل الأدبي بمجمله يُكون حنينًا لا مفرّ منه: إلى ماضٍ انقضى، أو أماكن ارتدناها، أو إلى أشخاص مروا بنا.. ولعل مفتتح الحكايا الشعبيّة التقليدي: «كان يا ما كان في قديم الزّمان…» أبلغ تعبير عن ذلك التمازج العضوي بين ما يعرف اليوم بـ«النوستالجيا» وصنعة الأدب على تنوع أشكالها التعبيريّة، بل إن مفكرين غربيين معاصرين، مثل إريك ساند بيرغ، ذهبوا إلى الزعم أن الأدب هو في الخلاصة شكل فني يعبّر عن «النوستالجيا»، إن لم يكن عبر ارتباط صريح بماضٍ محدد؛ فعلى الأقل على شكل عاطفة من الحنين والهوس بما قد كان، نجدها تتسرب من بين ثنايا النص.

لكننا الآن مدينون للرّاحلة سفيتلانا بويم بالتصور الأكثر تفهمًا لـ«النوستالجيا» الذي بتنا نمتلكه الآن، وذلك بفضل محاولتها التأسيس لاستعادة علميّة للمصطلح من براثن التحليل النفسي والأمراض السيكولوجيّة، واستقراء الجوانب الأخرى الأعمق لارتباط الناس بصور الماضي، وذلك في كتابها الثمين مستقبل النوستالجيا الصادر عام 2001

ووفق بويم، فإن «النوستالجيا» حنين لمنزل، أو حال أوّل، أو شخص لم يعد موجودًا أو متاحًا، أو إنّه لم يوجد قط، مما يعني أن النظر بلوعة وتشوّق إلى الماضي لا يعني بالضرورة تذكّر الماضي كما كان بالفعل، بل إعادة تشكيل كليّة له: حذفًا وحجبًا، وتعديلًا وتشويهًا، بل وافتعالًا، في ضوء خبرتنا المعيشة منذ ذلك الحين، لتكون النتيجة أشبه بـ«يوتوبيا» مدينة فاضلة أكثر منها بتنقيب عن آثار قائمة بالفعل…. ماضٍ ليس ذهبيًّا بقدر ما هو ماض مذهّب.

وهناك علاقة بين كل متعمِّق في الكتابة والأدب والنوستالجيا، والتي تعني بالأصل الحنين، أي الشعور بالرغبة في العودة بالذاكرة أو الرجوع لوقت سابق من حياتنا، هو شوق حلو ومُرّ لأشياء أو أشخاص أو مواقف من الماضي، حين نستعيدها نبتسم ونتمنى لو أن تعود، حتى لو كانت مكالمة هاتفية، أو مكان له من الأيام مكانة بين انشغالات الحياة، ويظهر من حين لآخر.

تلك هي سِمة الحنين وجماليته أنه لا يعود، حتّى نمضي في حياتنا كما هي، ونصنع نوستالجيا لها حنينها الخاص الذي نعود إليه بالذاكرة في مستقبل له أحداثه الخالدة في أيامنا وذكريات أعوامناالمنصرمة.

ولو نظرنا إلى المجموعة التي بين أيدينا اليوم “هير عباس العقرب” للأديب حسن العربي للمسنا هذا الحنين بين قصصها ينسج بخيوطه كامل المتن القصصي ويصنع منه ثوبًا جميلًا مطرزًا بورودٍ من الماضي، تكاد تشم عطرها بين السطور، وأن تراها تتجسد في شكل امرأة قد رحلت تاركة خلفها رجل وفيّ لحبهِ الراحل وعشرة عمره، كما في قصة “عبق الذكريات” وبطلها الذي يجلس أمام قبر زوجته الراحلة، يتذكر اهتمامها به وبهندامه، فيقول الراوي العليم ص8:

“عرف أنه لا شئ بدونها، فكما يقولون.. وراء كل رجل ناجح امرأة.

انتهى الاقتباس.

ويغلف الحنين للماضي أيضًا قصة “هن والخيال” ذلك الحنين المُغلف بالشباب والانطلاق وحيوية حب أيام الجامعة، والذي جعل صاحبه الأستاذ الذي لا يخطئ في محاضراته أبدًا، يتلعثم وهو يلمحها تجلس بين الصفوف، ويعطي لنفسه الأمل بأن سنوات قلبه العجاف قد ولت إلى الأبد، وأن دقات قلبه أخيرًا انتظمت، لتوقعه أن حبيبة القلب العائدة من الماضي ستتذكره، فيتقدم نحوها بخطى واثقة، ثم يقترب برأسه من أذنها وهي منهمكة في سماع نقد الأستاذ علي المنصة، هامسًا لها: ص11

“تُذكريني بأيام الجامعة الخوالي!” وينسحب في هدوء

فنجد هذه المرأة بعد ذلك تحاول أن تصل إلي صاحب الهمسة من الصورة الجماعية المعتادة في نهاية الندوة، لكنها لم تستطع التعرف عليه، وهنا تبدو المفارقة في نهاية القصة، والتي تعكس عتبة القصة الأولى وهي العنوان، فلسن هن صاحبات الخيال، لكن هذا الرجل هو الذي يعيش في حنين الماضي وبالتالي في الخيال.

وإذا كان عالم الأدب والندوات حاضر في هذه القصة؛ إلا أنها ليست الوحيدة، فنجد هذا العالم حاضر أيضًا في قصة “أخر أحلام الخريف” فالشخصية الرئيسة في القصة كاتب، وهو الأستاذ حمدي القناوي، الذي يجوب أرجاء المعمورة باحثًا في أزقة أحلامه التي كانت عن ماضيه، حيث يقول الراوي العليم ص20:

“عرف أنه يقترب من النهاية، فلقد بلغ من العمر أرذله، وما تبقي منه إلا القليل، سار يجوب أرجاء المعمورة، حتى وطئت قدماه حي الحسين العتيق، هائمًا على وجهه، باحثًا في أزقة أحلامه التي كانت، وذكريات سنين عمره التي مضت، لا يدري إلى أين تأخذه قدماه التي تعودت علي السير بالطرقات بطولِ ليله، بلا هدف ولا هوية، كلما أراد أن يغوص في بحار ذكرياته، يصول ويجول في حلم الماضي وآلامه”

انتهى الاقتباس

لن يتوقف الأمر عند هذا العدد من القصص، لكن هذا الحنين وألم الفراق تتسم به قصص أخري من المجموعة مثل: “موجة بحر”، “فات الميعاد” و”تأخرتِ حبيبتي”  

رأينا هنا إلى أي مدي يعود بنا الكاتب الأستاذ حسن العربي من خلال قصصه إلى نوستاليجيا الحنين إلى الماضي والذكريات، لنعيش مع شخوص قصصه التي تحمل على عاتقها هذا الهم الأكبر، تتمني لو عاد بهم الزمان، أو وجدوا بديلًا يؤنس وحدتهم، ويملأ الفراغ الذي أحدثه غياب الآخرين.. لكن الملاحظ هنا أن معظم من عانوا من ألم الحنين في القصص كانوا من الرجال، ممن تقدم بهم العمر واشتعل الرأس شيبا، بل ويصل الأمر إلى الخوف من فراق الأحبة الذين مازالوا على قيد الحياة، مثل قصة “الرحلة الأخيرة” التي يلتف فيها الأبناء حول سرير الأم وهي راقدة تنتظره، كما يقول الراوي العليم في القصة، فيصف الكاتب على لسانه لحظة ارتقاء الروح والجميع ينظرون إليها، وحتى هذه اللحظات غلفها الحنين والذكريات للماضي، فيظل الجميع يتذكرون الأيام الخوالي، وكل الذكريات الجميلة التي جمعتهم بها.

أما علاقة المرأة بنوستالجيا الحنين كانت لها النصيب الأقل في المجموعة، فنجدها تُظهر هذا الحنين في قصة “من وراء الكواليس” والتي أيضًا تدور في ندوة من ندوات عالم الأدب، تبحث فيها الشخصية الرئيسة في القصة وجه الحبيب بين الحضور، فلا تجده، فيتبدى لها وجهه في وجوه كل الحاضرين.

أما القصة الأخرى فهي قصة “القبطية” حيث يستهل الكاتب القصة بقول الراوي العليم ص 73 قائلًا:

“ثلاثتهن صديقات فاتنات من الماضي الجميل، ربطت بينهن صداقة جميلة في أيامٍ مضت، ذهبت إلى الأبد”

انتهي الاقتباس.

وهنا نجد نوستالجيا الحنين إلي الماضي ليست لشخص بعينه؛ بل لزمن السبعينات، بما يحمله من سمات للشخصية ونسق ثقافي مُتمثل في زي الفتيات القصير، الذي يصل إلي الركبة غالبًا، وفوقها بكثير أحيانًا (ميني جيب) بل والحنين إلي القيم والأخلاق التي كان يتسم بها الشباب في ذاك الوقت، مثل الشهامة والرجولة، والخوف علي الأخوات، وحمايتهن أثناء سيرهن في الشارع، وينهي الكاتب هذه القصة بموقف شمس الشخصية الرئيسة فيها، والتي تعرضت لحادث سقوط علي قضبان القطار، وهي ترتدي الميني جيب، واندفاع أحد الشباب لإنقاذها، فأصبح جل اهتمامها بعد ذلك هو تغطية جسدها قبل أن تهتم بحياتها والذي أنقذها، وهي دِلالة رمزية علي بداية انتشار الحجاب في نهاية السبعينات، وبداية الثمانينات.

أما القصة الثالثة التي حملت فيها المرأة هم الحنين إلى الماضي في المجموعة، فهي قصة “جوندولا إلى مورانو” ونجد فيها الجدة التي تسترجع أنهار الذكريات لحفيدتها، وتروي لها بعضًا من ذكريات الأيام الخوالي، وعشقها لفينيسيا، التي أخذها إليها زوجها لقضاء شهر العسل، ومن خلال هذه الذكريات يأخذنا الكاتب في رحلة ممتعة بالجندول وروعة الغروب في مدينة الحب والجمال في سردٍ ملئ بالمعلوماتية التي تمد القارئ بمتعة المعرفة إلى جانب متعة القراءة.

ومن هنا نجد أن هناك توازن في المجموعة بين المرأة والرجل في الحنين إلى الماضي، وهي دلالة رمزية من الكاتب على أن المشاعر والحنين لا يقتصر على جنس دون الآخر.. لكن الكاتب يأتي بقصة تجمعهما معًا ليؤكد على هذا.

فالقصة التي جمعت بين المرأة والرجل في نوستالجيا الحنين، فهي قصة:

“موركوت برائحة الشوكولاتة” وهي قصة من أروع قصص المجموعة سردًا ووصفًا للمشاعر الراقية، والطبيعة الساحرة في هذا المكان الخلاب، بل وطبيعة من يعيشون فيه أيضًا، فالنص متماسك يتسم بالمشهدية السينمائية، كما تتميز القصة بالنهاية المباغتة التي يتوقف أمامها القارئ في دهشة تدفعه إلى التأمل.

أما القصة المعنونة ب”لوتشيا” وهي القصة الأخيرة بالمجموعة، لكنها ليست الأخيرة في هذه الدراسة، هذه القصة تتكون من اثني عشرة جزءٍ، لذلك فهي تندرج تحت جنس المتوالية القصصية، فبنيتها خرجت من إطار القصة القصيرة حيث التكثيف، ووحدة المكان والزمان، والنهاية المباغتة، فتعددت فيها الشخوص، وتعددت فيها الأماكن، فنجد لوتشيا ابنة السبع سنوات التي كانت تعيش في قرية كور ليون، ثم انتقلت إلي روما مع دونا ماريا بنت دون فيتو التي عثرت على لوتشيا بعد أن اغتصبها خالها لوكا بموافقة والدتها لويزا، والتي كانت تقدمها له مقابل المال، ثم سفرها إلى الغردقة وشرم الشيخ بعد أن أصبحت شابة، وقد سبقها إليهما خالها لوكا، وذلك رغبة في الانتقام منه، ومساعدة صديقتها صوفيا التي تعيش في الغردقة بمصر، لكن القدر يسوق إليها الطبيب ضياء الذي تعتنق بعد ذلك الإسلام علي يديه، في نهاية قدم لها الكاتب من خلال الأحداث، وتدرجها فجاءت متوقعة، لكن الجميل في هذه القصة أنها تكشف عن قدرة الكاتب الفائقة علي السرد الروائي المطول، والوصف المشوق، وهي تبرز مقدرته علي كتابة الرواية ببراعة.

أما القصة التي آثرت أن أتحدث عنها في النهاية، فهي القصة التي تحملُ عنوان المجموعة “هير عباس العقرب” لما تحمله هذه القصة من رسائل مضمرة، يرسلها الكاتب من خلال نصه إلى المتلقي، بل والمجتمع ككل، والتي أبدع في بنيتها السردية، بداية من الاستهلال، الذي يقول فيه على لسان الراوي العليم ص49:

“ظلت برجيت تهاتف والدها في يوم ميلادها الرابع عشر محاولة أن تقتنص منه لحظة اهتمام”

ثم ينتقل بعد ذلك في الفقرة التالية ليقول:

“لم تفكر في الاتصال بوالدتها ليليانا لمعرفتها مسبقًا بانشغالها عند مُصفف الشعر اللبناني المشهور”

هنا نجد معاناة طفلة أو لنقل يافعة تعاني من الوحدة، وعدم الاهتمام من والديها، وانشغال كلًا منهما في عالمه الخاص به، متناسيان حتى يوم مولدها الذي يعتبر من أهم الأعياد الخاصة عند الغرب، حيث تدور أحداث هذه القصة في مدينة زيورخ بسويسرا، فتقرر البنت أن تلفت انتباههما بطريقة تجعلهما يندمان يوم لا ينفع الندم، فترسل لكل منهما رسالة هاتفية تذكرهما بيوم ميلادها، وأنها اليوم ستبهرهما بمفاجأةٍ لن ينسياها مدى الحياة.

وحينما وصلت سيارة كلا منهما تحت العمارة، والسائقان كلاهما يفتح الباب لمخدومه لينزلا في نفس اللحظة، وصلت رسالة إلى هاتفيهما تقول:

هذه الأشلاء هي أنا…. سوربرايز!!!

ويسمعا معًا دوي سقوط هائل من أعلي المبني، والذي ارتطم بالأرض مُتفجرًا إلى أشلاء تركت وراءها الدماء والبقايا في كل مكان..

وهنا أعود إلى الغلاف كعتبة من عتبات النص كما يشير إلي ذلك رولان بارت، هذا الغلاف الذي استطاع الرسام بريشته أن يُبلور هذه القصة “هير عباس العقرب” في هذه اللوحة المعبرة جدًا عن متن القصة، فكما نري رجل يجلس أمام دماء متناثرة علي الأرض، يخفي ناصيته بكفيه، في حالة حزن وندم، وتأكيد علي المتن الداخلي للقصة نفسها، كما أن هذه الجلسة دِلالة رمزية علي أنه المتسبب في هذه الجريمة البشعة.

أما الرسائل المضمرة التي يرسلها الكاتب عبر قصته فتتلخص في:

أن الاهتمام بالأبناء ليس بإغداق المال عليهم فقط، وتلبية طلباتهم المادية، ولكن هناك ما هو أغلى بكثير من الماديات، ألا وهو الحب والمشاعر والاهتمام، وهي أشياء لا تشترى، لكن لها الأثر النفسي الكبير على الأبناء.

أما الرسالة الثانية فتقول:

أن المغترب لا بد أن يصنع حوله عالم من الأصدقاء في غربته، كي يكونوا عوضًا له عن الأهل اللذين فارقهم، فلا يشعر بالوحدة ويكون كلٌّ منهم سندًا للآخر، وعاملاً من عوامل العون على تقبل حياة الغربة بعيدًا عن الوطن. نعود فنقول:

إننا أمام مجموعة قصصية ماتعة تتميز بالتنوع في الأحداث، والأماكن التي تأخذ القارئ إلى بلدان لم يشاهدها إلا على شاشات السينما أو التليفزيون، والتي جسدها الكاتب في العديد من القصص القصيرة التي تداخلت فيها العناصر البنائية من أحداث وشخصيات ومكان وزمان، مع المكونات السردية من لغة فصحى رائقة، تتسم بالرقة والعذوبة والشاعرية، وحوار يتسم بالجمل المدهشة، ووصف يحول الشخوص والأماكن إلى مشاهد سينمائية متحركة أمام القارئ.. فشكرًا للمبدع الأستاذ حسن العربي، وأدعوكم جميعًا للقراءة والاستمتاع.

زر الذهاب إلى الأعلى